لا أدري من أين جاءت مقولة «آكل كمّ بحاله»، لكن «أبو عوض» قدَّم شرحاً جميلاً، لا تستطيع أمامه إلا احترام وجهة نظره، إذ قال لي ذات مرة: «من المؤكد أنك رأيت الكثيرين من الأولاد، نتيجة طاقتهم الفائضة، وفرط حركتهم، عندما لا يجدون ما يفعلونه، فإنهم يمسكون طرف أحد أكمامهم بأسنانهم، ويبدؤون بسحبه بعنف، حتى يُصبِح كُمّهم فارغاً من يدهم وساعدهم وعضدهم، ثم يلوِّحون بذاك الكُمّ جيئةً وذهاباً، امتعاضاً وتدليلاً على أن حياتهم باتت بحاجة إلى من يملؤها بطريقة غير تقليدية، لكن وبما أنهم لا يملكون خياراً فإنهم يُعاودون إدخال يدهم في الكُمّ الذي أكلوه منذ قليل، وكأن ما فعلوه هو أقصى درجات السِّحر، ثم يأتي من يصفق لهم على هذا الإنجاز، مع أنه يحمل من السخف واللا مبالاة الكثير».
والجدير بالذكر أن الآكلين أكماماً بأنفسهم باتوا أكثر من إمكانية إحصائهم، وإحصاء عدد الأكمام التي أكلوها وتلذذوا بها، مع عدم القدرة على وضع نسب دقيقة فيما إذا كانت تلك الأكمام طويلة أم قصيرة، ضيقة أم عريضة، وهل مصنوعة من الحرير أم من الكشمير أم من أقمشة قمصان البالة… والطامة الكبرى أن كثرة أكل الأكمام لا تُسبِّب عُسراً في الهضم، بقدر ما تؤثر في الدِّماغ وسلاسة حركة السيالات العصبية فيه، لدرجة أنني في إحدى المَرَّات رأيت بأم العين مثقَّفةً تحكي عن حب الوطن، وتعصُّبها له، وكلَّما أرادت التعبير عن ذلك تقول: «أنا شيفونية في هذه القضية»، والأنكى أن ما من أحد صوَّب خطأها بأنها «شوفينية» وليست «شيفونية». بينما «شاعر التَّفاصُل الاجتماعي»، كما يسميه «أبو عوض»، فإنه لا يفتأ يُكرِّر بأنه حقَّقَ فَتْحاً لغوياً عندما قال: «حُبِّي لَكِ مع كاسِر بروكسي.. وأشواقي بسرعة 16 غيغا»، مع أنه ما زال حتى اللحظة يكتب «تاركةً» بهذا الشكل «تاركتن». في حين إن المحلل الاقتصادي «أبو سهام»، صدَّق نفسه بعدما تنبأ بأن الدولار سيتجاوز الخمسمئة ليرة، وما عاد عقله يحمله، وبات على الطالعة والنازلة، يُذكِّر الآخرين بأنه «خبير البورصة الذي لن تصيبه ضلالة». والحقيقة, إن القائمة تطول لدرجة أننا لو جمعنا طول تلك الأكمام المأكولة فإنها ستلف الكرة الأرضية من عند خط الاستواء أكثر من عشر مرات، ودمتم.
بديع صنيج